فصل: فَصْلٌ في إمَارَةِ الِاسْتِيلَاءِ وَمَا يَصِحُّ فِيهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الأحكام السلطانية والسياسة الدينية والولايات الشرعية



.فَصْلٌ في إمَارَةِ الِاسْتِيلَاءِ وَمَا يَصِحُّ فِيهَا:

وَأَمَّا إمَارَةُ الِاسْتِيلَاءِ الَّتِي تُعْقَدُ عَنْ اضْطِرَارٍ فَهِيَ أَنْ يَسْتَوْلِيَ الْأَمِيرُ بِالْقُوَّةِ عَلَى بِلَادٍ يُقَلِّدُهُ الْخَلِيفَةُ إمَارَتَهَا وَيُفَوِّضُ إلَيْهِ تَدْبِيرَهَا وَسِيَاسَتَهَا، فَيَكُونُ الْأَمِيرُ بِاسْتِيلَائِهِ مُسْتَبِدًّا بِالسِّيَاسَةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَالْخَلِيفَةُ بِإِذْنِهِ مُنَفِّذًا لِأَحْكَامِ الدِّينِ لِيَخْرُجَ مِنْ الْفَسَادِ إلَى الصِّحَّةِ وَمِنْ الْحَظْرِ إلَى الْإِبَاحَةِ، وَهَذَا وَإِنْ خَرَجَ عَنْ عُرْفِ التَّقْلِيدِ الْمُطْلَقِ فِي شُرُوطِهِ وَأَحْكَامِهِ فَفِيهِ مِنْ حِفْظِ الْقَوَانِينِ الشَّرْعِيَّةِ وَحِرَاسَةِ الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ مُخْتَلًّا مَخْذُولًا وَلَا فَاسِدًا مَعْلُولًا، فَجَازَ فِيهِ مَعَ الِاسْتِيلَاءِ وَالِاضْطِرَارِ مَا امْتَنَعَ فِي تَقْلِيدِ الِاسْتِكْفَاءِ وَالِاخْتِيَارِ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَ شُرُوطِ الْمُكْنَةِ وَالْعَجْزِ.
وَاَلَّذِي يَتَحَفَّظُ بِتَقْلِيدِ الْمُسْتَوْلِي مِنْ قَوَانِينِ الشَّرْعِ سَبْعَةُ أَشْيَاءَ، فَيَشْتَرِكُ فِي الْتِزَامِهَا الْخَلِيفَةُ الْوَلِيُّ وَالْأَمِيرُ الْمُسْتَوْلِي وَوُجُوبُهَا فِي جِهَةِ الْمُتَوَلِّي أَغْلَظُ: أَحَدُهَا: حِفْظُ مَنْصِبِ الْإِمَامَةِ فِي خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ وَتَدْبِيرِ أُمُورِ الْمِلَّةِ، لِيَكُونَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مِنْ إقَامَتِهَا مَحْفُوظًا وَمَا تَفَرَّعَ عَنْهَا مِنْ الْحُقُوقِ مَحْرُوسًا.
وَالثَّانِي: ظُهُورُ الطَّاعَةِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي يَزُولُ مَعَهَا حُكْمُ الْعِنَادِ فِيهِ وَيَنْتَفِي بِهَا إثْمُ الْمُبَايَنَةِ لَهُ.
وَالثَّالِثُ: اجْتِمَاعُ الْكَلِمَةِ عَلَى الْأُلْفَةِ وَالتَّنَاصُرِ لِيَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ عُقُودُ الْوِلَايَاتِ الدِّينِيَّةِ جَائِزَةً وَالْأَحْكَامُ وَالْأَقْضِيَةُ فِيهَا نَافِذَةً لَا تَبْطُلُ بِفَسَادِ عُقُودِهَا، وَلَا تَسْقُطُ بِخَلَلِ عُهُودِهَا.
وَالْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ اسْتِيفَاءُ الْأَمْوَالِ الشَّرْعِيَّةِ بِحَقٍّ تَبْرَأُ بِهِ ذِمَّةُ مُؤَدِّيهَا وَيَسْتَبِيحُهُ آخِذُهَا.
وَالسَّادِسُ: أَنْ تَكُونَ الْحُدُودُ مُسْتَوْفَاةً بِحَقٍّ وَقَائِمَةً عَلَى مُسْتَحَقٍّ؛ فَإِنَّ جَنْبَ الْمُؤْمِنِ حَمِيٌّ إلَّا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُدُودِهِ.
وَالسَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْأَمِيرُ فِي حِفْظِ الدِّينِ وَرِعًا عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ يَأْمُرُ بِحَقِّهِ إنْ أُطِيعَ وَيَدْعُو إلَى طَاعَتِهِ إنْ عُصِيَ، فَهَذِهِ سَبْعُ قَوَاعِدَ فِي قَوَانِينِ الشَّرْعِ يُحْفَظُ بِهَا حُقُوقُ الْإِمَامَةِ وَأَحْكَامُ الْأُمَّةِ فَلِأَجْلِهَا وَجَبَ تَقْلِيدُ الْمُسْتَوْلِي؛ فَإِنْ كَمُلَتْ فِيهِ شُرُوطُ الِاخْتِيَارِ كَانَ تَقْلِيدُهُ حَيًّا اسْتِدْعَاءً لِطَاعَتِهِ وَدَفْعًا لِمُشَاقَّتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ، وَصَارَ بِالْإِذْنِ لَهُ نَافِذَ التَّصَرُّفِ فِي حُقُوقِ الْمِلَّةِ وَأَحْكَامِ الْأُمَّةِ وَجَرَى عَلَى مَنْ اسْتَوْزَرَهُ وَاسْتَنَابَهُ لِأَحْكَامِ مَنْ اسْتَوْزَرَهُ الْخَلِيفَةُ وَاسْتَنَابَهُ وَجَازَ أَنْ يَسْتَوْزِرَ وَزِيرَ تَفْوِيضٍ وَوَزِيرَ تَنْفِيذٍ فَإِنْ لَمْ يَكْمُلْ فِي الْمُتَوَلِّي شُرُوطُ الِاخْتِيَارِ جَازَ لِلْخَلِيفَةِ إظْهَارُ تَقْلِيدِهِ اسْتِدْعَاءً لِطَاعَتِهِ وَحَسْمًا لِمُخَالَفَتِهِ وَمُعَانَدَتِهِ، أَوْ كَانَ نُفُوذُ تَصَرُّفِهِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْحُقُوقِ مَوْقُوفًا عَلَى أَنْ يَسْتَنِيبَ لَهُ الْخَلِيفَةُ فِيهَا لِمَنْ قَدْ تَكَامَلَتْ فِيهِ شُرُوطُهَا لِيَكُونَ كَمَالُ الشُّرُوطِ فِيمَنْ أُضِيفَ إلَى نِيَابَتِهِ جَبْرًا لِمَا أَعْوَزَ مِنْ شُرُوطِهَا فِي نَفْسِهِ فَيَصِيرُ التَّقْلِيدُ لِلْمُسْتَوْلِي وَالتَّنْفِيذُ مِنْ الْمُسْتَنَابِ.
وَجَازَ مِثْلُ هَذَا وَإِنْ شَذَّ عَنْ الْأُصُولِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الضَّرُورَةَ تُسْقِطُ مَا أَعْوَزَ مِنْ شُرُوطِ الْمُكْنَةِ.
الثَّانِي: أَنَّ مَا خِيفَ انْتِشَارُهُ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ تُخَفَّفُ شُرُوطُهُ عَنْ شُرُوطِ الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ، فَإِذَا صَحَّتْ إمَارَةُ الِاسْتِيلَاءِ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إمَارَةِ الِاسْتِكْفَاءِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ إمَارَةَ الِاسْتِيلَاءِ مُتَعَيِّنَةٌ فِي الْمُتَوَلِّي وَإِمَارَةَ الِاسْتِكْفَاءِ مَقْصُورَةٌ عَلَى اخْتِيَارِ الْمُسْتَكْفِي.
وَالثَّانِي: أَنَّ إمَارَةَ الِاسْتِيلَاءِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْبِلَادِ الَّتِي غَلَبَ عَلَيْهَا الْمُتَوَلِّي، وَإِمَارَةَ الِاسْتِكْفَاءِ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْبِلَادِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا عَهْدُ الْمُتَكَفِّي.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ إمَارَةَ الِاسْتِيلَاءِ تَشْتَمِلُ عَلَى مَعْهُودِ النَّظَرِ وَنَادِرِهِ، وَإِمَارَةُ الِاسْتِكْفَاءِ مَقْصُورَةٌ عَلَى مَعْهُودِ النَّظَرِ دُونَ نَادِرِهِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ وَزَارَةَ التَّفْوِيضِ تَصِحُّ فِي إمَارَةِ الِاسْتِيلَاءِ وَلَا تَصِحُّ فِي إمَارَةِ الِاسْتِكْفَاءِ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُسْتَوْلِي وَوَزِيرِهِ فِي النَّظَرِ، لِأَنَّ نَظَرَ الْوَزِيرِ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَعْهُودِ، وَلِلْمُسْتَوْلِي أَنْ يَنْظُرَ فِي النَّادِرِ وَالْمَعْهُودِ، وَإِمَارَةُ الِاسْتِكْفَاءِ مَقْصُورَةٌ عَلَى النَّظَرِ الْمَعْهُودِ فَلَمْ تَصِحَّ مَعَهَا وَزَارَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى مِثْلِهَا مِنْ النَّظَرِ الْمَعْهُودِ لِاشْتِبَاهِ حَالِ الْوَزِيرِ بِالْمُسْتَوْزِرِ.

.الْبَابُ الرَّابِعُ: فِي تَقْلِيدِ الْإِمَارَةُ عَلَى الْجِهَادِ:

وَالْإِمَارَةُ عَلَى الْجِهَادِ مُخْتَصَرَةٌ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ مَقْصُورَةً عَلَى سِيَاسَةِ الْجَيْشِ وَتَدْبِيرِ الْحَرْبِ؛ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا شُرُوطُ الْإِمَارَةِ الْخَاصَّةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ يُفَوَّضَ إلَى الْأَمِيرِ فِيهَا جَمِيعُ أَحْكَامِهَا مِنْ قَسْمِ الْغَنَائِمِ وَعَقْدِ الصُّلْحِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهَا شُرُوطُ الْإِمَارَةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ أَكْبَرُ الْوِلَايَاتِ الْخَاصَّةِ أَحْكَامًا وَأَوْفَرُهَا فُصُولًا وَأَقْسَامًا، وَحُكْمُهَا إذَا خُصَّتْ دَاخِلٌ فِي حُكْمِهَا إذَا عَمَّتْ، فَاقْتَصَرْنَا عَلَيْهِ إيجَازًا.

.أَقْسَامُ مَا يَتَعَلَّقُ بِوِلَايَةِ الِاسْتِيلَاءِ مِنَ الْأَحْكَامِ إِذَا عَمَّتْ:

وَاَلَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ إذَا عَمَّتْ سِتَّةُ أَقْسَامٍ:

.الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي تَسْيِيرِ الْجَيْشِ:

وَعَلَيْهِ فِي السَّيْرِ بِهِمْ سَبْعَةُ حُقُوقٍ: أَحَدُهَا الرِّفْقُ بِهِمْ فِي السَّيْرِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَضْعَفُهُمْ وَتُحْفَظُ بِهِ قُوَّةُ أَقْوَاهُمْ، وَلَا يَجِدَّ السَّيْرَ فَيَهْلَكْ الضَّعِيفُ وَيَسْتَفْرِغْ جَلَدَ الْقَوِيِّ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا الدِّينُ مَتِينٌ فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى وَشَرُّ السَّيْرِ الْحَقْحَقَةُ».
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْمُضْعَفُ أَمِيرُ الرُّفْقَةِ» يُرِيدُ أَنَّ مَنْ ضَعُفَتْ دَابَّتُهُ كَانَ عَلَى الْقَوْمِ أَنْ يَسِيرُوا بِسَيْرِهِ.
وَالثَّانِي أَنْ يَتَفَقَّدَ خَيْلَهُمْ الَّتِي يُجَاهِدُونَ عَلَيْهَا وَظُهُورَهُمْ الَّتِي يَمْتَطُونَهَا، فَلَا يُدْخِلُ فِي خَيْلِ الْجِهَادِ ضَخْمًا كَبِيرًا وَلَا ضَرْعًا صَغِيرًا وَلَا حَطَمًا كَسِيرًا وَلَا أَعْجَفَ زَارِحًا هَزِيلًا، لِأَنَّهَا لَا تَقِي وَرُبَّمَا كَانَ ضَعْفُهَا وَهْنًا، وَيَتَفَقَّدُ ظُهُورَ الِامْتِطَاءِ وَالرُّكُوبِ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى السَّيْرِ وَيَمْنَعُ مَنْ حَمَلَ زِيَادَةً عَلَى طَاقَتِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْتَبِطُوا الْخَيْلَ، فَإِنَّ ظُهُورَهَا لَكُمْ عِزٌّ، وَبُطُونَهَا لَكُمْ كَنْزٌ».
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُرَاعِيَ مَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ وَهُمْ صِنْفَانِ: مُسْتَرْزِقَةٌ وَمُتَطَوِّعَةٌ، فَأَمَّا الْمُسْتَرْزِقَةُ فَهُمْ أَصْحَابُ الدِّيوَانِ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَالْجِهَادِ، يُفْرَضُ لَهُمْ الْعَطَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْفَيْءِ بِحَسَبِ الْغِنَى وَالْحَاجَةِ.
وَأَمَّا الْمُتَطَوِّعَةُ فَهُمْ الْخَارِجُونَ عَنْ الدِّيوَانِ مِنْ الْبَوَادِي وَالْأَعْرَابِ وَسُكَّانِ الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي النَّفِيرِ الَّذِي نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
وَفِي قَوْله تَعَالَى: {خِفَافًا وَثِقَالًا}.
أَرْبَعَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا شُبَّانًا وَشُيُوخًا قَالَهُ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ.
وَالثَّانِي أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ.
وَالثَّالِثُ: رُكْبَانًا وَمُشَاةً قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.
وَالرَّابِعُ: ذَا عِيَالٍ وَغَيْرِ ذِي عِيَالٍ قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَهَؤُلَاءِ يُعْطَوْنَ مِنْ الصَّدَقَاتِ دُونَ الْفَيْءِ مِنْ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَذْكُورِ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَوْا مِنْ الْفَيْءِ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الصَّدَقَاتِ وَلَا يُعْطَى أَهْلُ الْفَيْءِ الْمُسْتَرْزِقَةُ مِنْ الدِّيوَانِ مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ، لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْفَيْءِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ مَالٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُشَارِكَ غَيْرُهُ فِيهِ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ صَرْفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَقَدْ مَيَّزَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا فَرَّقَ.
وَالرَّابِعُ أَنْ يُعَرِّفَ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ الْعُرَفَاءَ، وَيَنْقُلَ عَلَيْهِمَا النُّقَبَاءَ لِيَعْرِفَ مِنْ عُرَفَائِهِمْ وَنُقَبَائِهِمْ أَحْوَالَهُمْ وَيَقْرَبُونَ عَلَيْهِ إذَا دَعَاهُمْ، فَقَدْ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِي مَغَازِيهِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}.
وَفِيهَا ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ لِلشُّعُوبِ النَّسَبَ الْأَقْرَبَ.
وَالْقَبَائِلِ النَّسَبَ الْأَبْعَدَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الشُّعُوبَ عَرَبُ قَحْطَانَ، وَالْقَبَائِلَ عَرَبُ عَدْنَانَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الشُّعُوبَ بُطُونُ الْعَجَمِ، وَالْقَبَائِلَ بُطُونُ الْعَرَبِ.
وَالْخَامِسُ: أَنْ يَجْعَلَ لِكُلِّ طَائِفَةٍ شِعَارًا يَتَدَاعَوْنَ بِهِ لِيَصِيرُوا مُتَمَيِّزِينَ وَبِالِاجْتِمَاعِ مُتَظَافِرِينَ.
رَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ شِعَارَ الْمُهَاجِرِينَ يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَشِعَارَ الْخَزْرَجِ يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ، وَشِعَارَ الْأَوْسِ يَا بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ، وَسَمَّى خَيْلَهُ خَيْلَ اللَّهِ.
وَالسَّادِسُ: أَنْ يَتَصَفَّحَ الْجَيْشَ وَمَنْ فِيهِ لِيُخْرِجَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ فِيهِ تَخْذِيلٌ لِلْمُجَاهِدِينَ وَإِرْجَافٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ عَيْنًا عَلَيْهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ.
{فَقَدْ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ ابْنَ سَلُولَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ لِتَخْذِيلِهِ الْمُسْلِمِينَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}.
أَيْ لَا يَفْتِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
وَالسَّابِعُ: أَنْ لَا يُمَالِئَ مَنْ نَاسَبَهُ أَوْ وَافَقَ رَأْيَهُ وَمَذْهَبَهُ عَلَى مَنْ بَايَنَهُ فِي نَسَبٍ أَوْ خَالَفَهُ فِي رَأْيٍ وَمَذْهَبٍ، فَيُظْهِرُ مِنْ أَحْوَالِ الْمُبَايَنَةِ مَا تُفَرَّقُ بِهِ الْكَلِمَةُ الْجَامِعَةُ تَشَاغُلًا بِالتَّقَاطُعِ وَالِاخْتِلَافِ، وَقَدْ أَغْضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ وَهُمْ أَضْدَادٌ فِي الدِّينِ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ حُكْمَ الظَّاهِرِ حَتَّى قَوِيَتْ بِهِمْ الشَّوْكَةُ وَكَثُرَ بِهِمْ الْعَدَدُ وَتَكَامَلَتْ بِهِمْ الْقُوَّةُ، وَوَكِلَهُمْ فِيمَا أَضْمَرَتْهُ قُلُوبُهُمْ مِنْ النِّفَاقِ إلَى عَلَّامِ الْغُيُوبِ الْمُؤَاخِذِ بِضَمَائِر الْقُلُوبِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالرِّيحِ الدَّوْلَةُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْقُوَّةُ فَضَرَبَ الرِّيحَ بِهَا مَثَلًا لِقُوَّتِهَا.